البيانات المفوضية السامية لحقوق الإنسان
“الأزمة السوريّة تنهش عالمنا”
“الأزمة السوريّة تنهش عالمنا”
19 آذار/مارس 2018
للمشاركة
موجز الى مجلس الأمن وفقًا لصيغة آريا بشأن الوضع في الشرق الأوسط (سوريا)
بيان المفوّض الساميّ لحقوق الإنسان
زيد رعد الحسين
في 19 آذار/ مارس 2018
سيّدي الرئيس،منذ اندلاع الأزمة منذ سبع سنوات عقب تعذيب فتًى من درعا؛ ومع استخدام أسلحة فتّاكة ضدّ التظاهرات السلميّة التي تلت الحادثة؛ والقنّاصة؛ والشبيحة – وجرائمهم وجرائم الحكومة، بما في ذلك قتل حمزة الخطيب الذي يبلغ من العمر 13 سنة وتشويهه؛ ومع بروز المجموعات الأصوليّة المتطرّفة والإرهابيّة في مرحلة لاحقة – اتّسم النزاع في سوريا بازدرائه المطلق للحدّ الأدنى من المبادئ والقوانين.
وبدأت القصّة – منذ سبع سنوات تقريبًا – بتعذيب أطفال، وإفلات المعذِّبين من العقاب بغطاء من الدولة السوريّة. فبرزت أفظع المجموعات الإرهابيّة وأكثرها دمويّة على أرض غارقة أصلاً بالدماء. وأسبوع تلو الأسبوع، وسنة تلو السنة، رفع زملاؤنا والموظّفون في مكتبنا تقريرًا طارئًا تلو الآخر بشأن انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان – وآخرها تناول الوضع في الغوطة الشرقيّة.
كما دققنا أعلى نواقيس خطر ممكنة بسبب مصير مئات الآلاف من المدنيّين المذعورين والضعفاء، المحاصرين بنيران الاشتباكات، إن في القصير، أم حمص القديمة، أم عين العرب، أم المعضميّة، أم الزبدانيّ، أم داريا، أم عفرين، أم الرقّة، أم مدينة حلب، أم غيرها من المناطق. وهؤلاء المدنيّون كانوا ولا يزالون من السكّان المحليّين وليس من الإرهابيّين.
ويجدر التذكير بأنّ العديد من الأطراف في النزاع برّروا هجماتهم العسكريّة بسعيهم لمكافحة الإرهاب. وفي الواقع، لم يتمّ يومًا اللجوء إلى الحملات ضدّ الإرهاب لتبرير استخدام القوّة من دون أيّ رادع وبعيدًا كلّ البعد عن الأخلاق ضدّ المدنيّين أكثر منه خلال الأشهر القليلة الماضية في سوريا.
فعيادات التوليد، والحضانات والمدارس، والأسواق والأفران، التي تُستَهدَف وتُدمَّر مرارًا وتكرارًا هي من المواقع المدنيّة الأساسيّة، التي يحميها القانون الإنسانيّ الدوليّ. ولا يمكن أبدًا أن تُبَرَّر إبادة الأحياء المدنيّة وبأيّ شكل من الأشكال، بالحاجة الملحّة إلى التغلّب على المجموعات الإرهابيّة – مهما بلغت فظاعة الأعمال التي ترتكبها هذه المجموعات.
ومن أجل التغلّب على الإرهاب، علينا أن نمتنع عن توجيه الهجمات غير المبرّرة والوحشيّة ضدّ الأبرياء، لأنّها ما يميّز في الواقع المجموعات العنيفة المتطرّفة.
تدّعي الحكومة السورية بأنّها تبذل قصارى جهدها من أجل حماية المدنيّين. ولكن عندما تكون قادرًا على تعذيب شعبك وقتله بطريقة عشوائيّة، تفقد مصداقيّتك سريعًا وبكل تأكيد.
انطوى حصار القوّات الحكوميّة للغوطة الشرقيّة الذي استمرّ حوالى نصف عقد، على تفشّي جرائم الحرب، واستخدام الأسلحة الكيميائيّة، والتجويع القسريّ كسلاح حرب، والحرمان من المساعدة الضروريّة لإنقاذ الحياة – وبلغت الأوضاع ذروتها مع قصف مركّز استمرّ شهرًا واستهدف مئات الآلاف من المدنيّين المحاصرين المذعورين. وتتدفّق حاليًّا الأسر إلى خارج المنطقة، ولكنّ العديد من المدنيين يخشى الأعمال الانتقاميّة بسبب اتّهامه بدعم المجموعات المعارِضة. ونشير في هذا السياق، إلى الاعتقالات الجماعيّة المستمرّة وغير المبرّرة التي تقوم بها قوّات سوريا الديمقراطيّة وتستهدف عشرات الآلاف من الأشخاص هربوا من الرقّة خلال هجوم التحالف الدوليّ على تنظيم الدولة الإسلاميّة العام الماضي.
وفي مدينة عفرين التي تمكّنت القوّات التركيّة البارحة من السيطرة عليها، أدّت الضربات الجويّة والهجمات الأرضيّة والانفجارات إلى سقوط أعداد هائلة من القتلى والجرحى في صفوف المدنيّين بالإضافة إلى تشرد الآلاف منهم. وتشير تقارير وصلت إلى موظّفينا إلى أنّ حوالى 50,000 مدنيّ لا يزالون في المدينة، حيث تمّ إقفال المستشفى الوحيد فيها بسبب دماره، كما تمّ تقنين التزويد بالمياه إلى أقصى الحدود بسبب تدمير محطّة الضخّ. ولا تزال الاشتباكات مستمرّة في مناطق أخرى من عفرين. وفي محافظات إدلب وحماه ودير الزور، تستهدف الغارات الجويّة والهجمات الأرضيّة المدنيّين، تمامًا كما هي الحال في المناطق السكنيّة في دمشق التي تسيطر عليها الحكومة، وفي محافظة درعا حيث استهدف تجدّد الهجمات مناطق سكنيّة بعد أشهر من الهدوء النسبيّ. وفي غضون ذلك، وعقب طرد تنظيم الدولة الإسلاميّة من محافظة الرقّة، يواجه من نجا من الموت والعائدون دمارًا شاملًا للمساكن والبنى التحتيّة، وأعدادًا هائلة من المتفجّرات الخطرة في ظلّ فوضى عارم تشلّ الحكم.
وكما ذكرنا في مستهل كلمتنا، فإنّ كافة الأطراف في هذا النزاع قد لجأوا إلى أساليب حرب غير مشروعة فألحقوا أضرارًا جسيمة بالمدنيّين. وقد منعت القوّات الحكوميّة والميليشيات والمجموعات المسلّحة والمنظّمات الإرهابيّة بصورة منتظمة وصول المساعدة الإنسانيّة، واستهدفت بهجماتها المواقع المدنيّة المحميّة، على غرار مراكز العناية الصحيّة، ما أدّى إلى حالات موت كان من الممكن تفاديها. وفي العام 2017، تعرّض مرفق صحّي إلى هجمات متتاليّة ضربته مرّة كلّ ثلاثة أيّام. كما لجأت الحكومة إلى عمليّات التوقيف التعسّفي، والاختفاء القسريّ والأحكام والإدانات المضلّلة من أجل احتجاز عشرات الآلاف من الأشخاص، وغالبًا ما ترافق ذلك مع حالات تعذيب ومعاملة السيّئة إلى أقصى الحدود، بحسب ما أشارت إليه أكثر من مرّة تقارير موظّفينا ولجنة التحقيق التابعة إلى مجلس حقوق الإنسان. وقد أصدرت اللجنة الأسبوع الفائت تقريرًا صادمًا يعرض بالتفصيل لجوء القوّات الحكوميّة وميليشياتها إلى الاغتصاب وغيرها من أعمال العنف الجنسيّ، بما في ذلك البتر والتشويه خلال مداهمات المنازل، وعند نقاط التفتيش وفي الاحتجاز. واعتبرت اللجنة أنّ استخدام العنف الجنسيّ، في سياق الهجمات المتفشيّة والمنتظمة على المدنيّين يرقى إلى جرائم ضدّ الإنسانيّة، وأنّ المجموعات المسلّحة مارست أيضًا العنف الجنسيّ على الأسرى والمدنيّين، وإن بدرجات أقل. كما أنّ المجموعات الإرهابية استعبدت النساء جنسيًّا وارتكبت إساءات أخرى خطيرة؛ واحتجزت المجموعات المسلّحة المدنيّين كرهائن، وغالبًا في ظروف سوء معاملة قصوى.
بالإضافة إلى ذلك، تعرّض العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين عبّروا بكلّ شجاعة عن حاجات الشعب، وسعَوا إلى توثيق انتهاكات حقوق الشعب التي ارتُكِبت بلا رحمة ولا هوادة، إن في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة أم تلك التي تسيطر عليها المجموعات المسلّحة، إلى الاحتجاز والتعذيب والمعاملة القاسية والتشويه والقتل. فالكلفة البشريّة لجمع المعلومات التي رُفِعَت إلى مجلس الأمن، بما في ذلك ما جاء في تقارير الأمين العام الشهريّة، أتت عالية جدًّا.
لم يرقَ مجلس الأمن إلى التضحيات التي قدّمها هؤلاء الأبطال في سوريا. ولم يتّخذ أيّ قرار حازم لحماية حقوق الإنسان ومنع المزيد من الخسائر في الأرواح، على الرغم من السلوك المخجل والمخزي الذي طبع النزاع من الخارج. ولهذا الفشل تبعات كبرى. فالنزاع السوريّ والإفلات من العقاب الذي رافقه ينهشان على عالمنا. إنّ كلًّا من الوحشيّة التي تعجز الكلمات عن وصفها؛ ونزوح الضحايا الهائل إلى البلدان والمناطق المجاورة؛ وتدخّل العقيم لقوى خارجيّة، إن مباشرة أم بالوكالة؛ وفشل المؤسّسات الدوليّة في اعتماد إجراءات حازمة تحمي القانون الإنسانيّ الدوليّ وقانون حقوق الإنسان قد هزّ الشرق الأوسط، وغير المشهد السياسيّ في المناطق الأخرى، وقضى على عقود من العمل من أجل اعتماد حدّ أدنى من المعايير الأخلاقيّة خلال أوقات الحرب، وولّد مخاوف خطيرة تطال مستقبل حقوق الإنسان والسلام والأمن والتنمية في العالم.
لقد بُنِيَت الأمم المتّحدة على التزام جميع الدول – ونقتبس من الميثاق: "أن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلّها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي." ولكن، خلال السنوات الأخيرة، بقي مرتكبو الجرائم ضدّ الإنسانيّة وجرائم الحرب في سوريا وغيرها من البلدان، بمنأىً عن العدالة أو الإجراءات الوقائيّة بسبب حقّ النقض أو التهديد باستخدامه.
لا يؤدّي الفشل في حماية حياة الملايين من الأشخاص وحقوقهم إلى تآكل عمل الأمم المتّحدة فحسب بل إلى تقويض شرعيّتها أيضًا، وهي لا تزال أوسع الأنظمة نطاقًا للتعاون الدوليّ. وفي حال حُرِم مجلس الأمن من لعب دوره في حماية الميثاق وحقوق الإنسان في العالم أجمع؛ في حال لا يمكنه الارتقاء ليواجه تحدّيات الأزمات والصراعات – ستواجه البشريّة أخطارًا عظيمة في ظلّ تفكّك الأمم المتّحدة وإطار القانون الدولي العظيم، ويمسيان بالتاليّ كتلة متراخية لا طائلة منها.
في كانون الأوّل/ ديسمبر 2016، وبسبب عدم اعتماد مجلس الأمن أيّ عمل ملائم قائم على المبادئ، قرّرت الجمعيّة العامة إنشاء آليّة دولية محايدة ومستقلة من شأنها جمع الأدلّة عن أخطر الجرائم الدوليّة المرتَكبة في سوريا وحفظها وتحليلها، من أجل تيسير الملاحقات القضائيّة التي ستبادر إليها المحاكم الدوليّة والمحليّة. وقد منح مكتبنا الأولويّة الطارئة للمساعدة في إنشاء هذه الآلية. وبالإضافة إلى أنشطة المراقبة والإبلاغ التي يقوم بها موّظّفو مكتبنا – ولو عن بعد بما أنّنا مُنعنا من الوصول إلى سوريا – نستمرّ في دعم الجهود الإضافيّة التي تبذلها لجنة التحقيق التابعة إلى مجلس حقوق الإنسان.
ولا بدّ لمن ارتكب ولا يزال يرتكب هذه الأعداد الهائلة من الجرائم في سوريا من أن يتحمّل مسؤوليّة أعماله أمام محكمة مناسبة. ولا بدّ من توفير ذلك للضحايا من دون القبول بالتفاوض؛ كما لا بدّ من دعم شرعيّة الأمم المتّحدة، بما في ذلك مجلس الأمن؛ والتصدّي للانتهاكات والوقاية منها في المستقبل؛ والمضي في تحقيق حقوق الإنسان في أصقاع العالم كلّها، من دون خوف أو مجاملة.
لم يتمّ يومًا إنشاء لجنة تقصّي حقائق في الشرق الأوسط – مع استثناء شمال إفريقيا، أو أيّ محكمة دوليّة لجرائم الحرب. ألا تستحقّ شعوب الشرق الأوسط تحقيق العدالة وكشف الحقيقة في ما يتعلّق بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان؟
سيّدي الرئيس،
يمكن القرارات الحازمة والفاعلة والقابلة للتنفيذ التي يتّخذها مجلس الأمن بالإجماع أن تنعكس فعلاً على الوضع في سوريا – كما تساهم في إعادة الثقة في النظام الدوليّ. وندعو مرة جديدة إلى إحالة الانتهاكات المرتكبة إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة. ونناشد من جديد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن للاتّفاق على الامتناع عن استخدام حقّ النقض أو التهديد باستخدامه، في الحالات التي تؤكّد فيها أدلّة دامغة وقوع جرائم حرب أو جرائم ضدّ الإنسانيّة. وبالإضافة إلى ذلك، لا بدّ من تأسيس أيّ محادثات تهدف إلى مصالحة الأطراف وبناء السلام، على العدالة واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حقّ المحتجزين، و12 مليون شخص أجبروا على مغادرة منازلهم.
لا قيمة لأيّ نقاش يحمي المرتكبين من الملاحقة، لأّن التسوية ستكون فارغة لا قيمة لها. من أجل إحلال سلام دائم وحقيقيّ في سوريا، يجدر تحقيق العدالة للشعب السوريّ.
شكرًا سيدّي الرئيس.