فولكر تورك، مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان
في
الدورة الـ53 لمجلس حقوق الإنسان
المكان
جنيف
آثار تغيّر المناخ الوخيمة على إعمال الحقّ في الغذاء إعمالاً كاملاً
سيّدي نائب الرئيس،
أصحاب السعادة،
أيها الزملاء الأعزاء،
أيها المشاركون في حلقة النقاش الكرام،
ندرك تمامًا أنّ بيئتنا تحترق. وتذوب. وتغرق. وتنضب. وتجفّ.
بيئتنا تحتضر.
فتغير الفصول المتوقع والمنتظم بات بعيدًا كلّ البعد عن مساره المعتاد. والأعاصير بأبعادها غير المسبوقة تؤجج عُرام العواصف الجارفة والمميتة. كما تجتاح موجات الحر المحيطات وتهدد الحياة البحرية ومصائد الأسماك والشعاب المرجانية. وقد تحولت البحار والبحيرات الداخلية، التي ساهمت في إطعام أجيال عديدة من المزارعين، إلى أوعية من الغبار والوحل.
رأيت هذه الظاهرة بأم العين في محيط بحر آرال، عندما زرت أوزبكستان في وقت سابق من هذا العام.
وعلى الرغم من هذا الواقع المرير، ما زلنا لا نبادر إلى العمل بالإلحاح والحزم المطلوبين. فيتفنّن قادتنا باتّخاذ قرارات مُصمّمة بإتقان ويَعِدّون بالتصرف ومن ثم... يعلقون في شباك المدى القصير.
في المسار الذي نتّبعه حاليًا، من المتوقع أن يبلغ متوسط ارتفاع درجة الحرارة بحلول نهاية هذا القرن 3 درجات مئوية، ولن نتمكّن بعد ذلك من التعرف على أنظمتنا البيئية، ولا على هوائنا وطعامنا ومياهنا ولا حتّى على حياتنا البشرية بحدّ ذاتها.
وستغمر المياه مساحات شاسعة من الأراضي فتختفي تحت سطح المحيطات، أو قد تمسي غير صالحة للسكن بسبب الحرارة والنقص في المياه. ففي آب/ أغسطس الماضي، ارتفعت درجة الحرارة في البصرة جنوب العراق بشكل حاد، وبلغت 52.6 درجة مئوية. سأزور العراق في وقت لاحق من هذا العام بغية تسليط الضوء على مخاطر هذا المستقبل البائس من بين قضايا ملحّة أخرى.
نناقش صباح اليوم الحق في الغذاء، ومن الواضح أن حقّنا هذا مهدد بشكل شامل بسبب تغير المناخ.
فالظواهر المناخية المتطرّفة والكوارث المفاجئة والتدريجية على حدّ سواء، الناجمة عن تغير المناخ تقضي على المحاصيل والقطعان ومصائد الأسماك والنظم الإيكولوجية برمّتها.
وتكرارها يجعل من المستحيل على المجتمعات المحلية أن تعيد بناء حياتها وأن تعيل نفسها.
أمّا على الصعيد العالمي فقد تمّ تسجيل ارتفاع في معدل الكوارث الناجمة عن الفيضانات التي يولّدها تغيّر المناخ بنسبة 134 في المائة، وذلك بين العامَيْن 2000 و2023.
كما عانى أكثر من 828 مليون شخص من الجوع في العام 2021. ومن المتوقع أن يعرّض تغير المناخ 80 مليون شخص إضافي تقريبًا لخطر الجوع بحلول منتصف هذا القرن، ما يولّد قدرًا من اليأس والعوز مرعبًا للغاية.
وفقًا للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، سبق وأضرّت الظروف الجوية المتطرفة المرتبطة بتغير المناخ بإنتاجية جميع القطاعات الزراعية ومصائد الأسماك، ما ولّد عواقب وخيمة هدّدت الأمن الغذائي وسبل العيش. وهذا الأثر أسوأ حاليًا بالنسبة إلى صغار المزارعين، وسكان أفريقيا دون الصحراء الكبرى؛ وعبر آسيا، وفي الدول الجزرية الصغيرة، وفي أميركا الوسطى والجنوبية.
ومع تسارع الاحتباس الحراري، ستزداد هذه التداعيات انتشارًا وحدة. ولن ينجو أي بلد منها. أما الأشخاص الأكثر تضررًا فهم سكان البلدان التي تعاني أصلاً من انعدام الأمن الغذائي، وحيث أنظمة الحماية متردية لدرجة لا تسمح لها بالاستجابة بفعالية للأزمات المناخية.
وغالبًا ما تكون هذه البلدان تلك التي بالكاد استفادت من التنمية الصناعية، وبالكاد ساهمت في العمليات الصناعية التي تقتل بيئتنا وتنتهك حقوقنا.
وإذا لم تكن هذه القضية من قضايا حقوق إنسان، فأي من القضايا الأخرى هي منها؟
يجب ألا نسلّم أطفالنا من بعدنا وأطفالهم من بعدهم هذا المستقبل القاتم من الجوع والمعاناة. ولسنا مضطرين على ذلك أصلاً.
فنحن جيل يمتلك أقوى الأدوات التكنولوجية عرفها التاريخ يومًا، ونتمتّع بالقدرة على تغيير المستقبل.
في حال وضعنا حدًا للإعانات العقيمة التي تدعم قطاع الوقود الأحفوري، وبدأنا في التخلص منه تدريجيًا.
وفي حال حوّلنا مؤتمر الأطراف 28 إلى عامل تغيير حاسم يبدّل قواعد اللعبة، وهذا ما نحتاج إليه بشدة.
وفي حال حاسبت المحاكم المنخرطة في قضايا التقاضي المناخي الشركات والحكومات في جميع أنحاء العالم.
وفي حال فضحنا أولئك الذين يعتمدون سياسات التمويه والتجميل الأخضر ويشكّكون في الأدلة والحقائق بدافع الجشع.
وفي حال تجاوزنا قوى الاستقطاب، وتوحدنا حول ضرورة بذل قصارى جهدنا لمعالجة تغير المناخ، فنفي بحقوق الإنسان.
وفي حال حولنا مؤسسات التنمية والتمويل الدولية إلى محركات للعمل المناخي، فتمدّ البلدان والشعوب الأكثر تضررًا بالتمويل اللازم لمكافحة تغير المناخ.
وفي حال اعتمدنا التدابير المناسبة لتعزيز الحكم الرشيد، بحيث يوفّر التمويل، عندما يصبح متاحًا، الدعم وسبل الانتصاف لأشد الناس تضررًا.
ونتيجة لهذه الخطوات كلّها، يصبح الانتقال العادل إلى الاقتصاد الأخضر ممكنًا على الصعيدين الوطني والعالمي.
يمكننا تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويمكننا إعمال الحق في الغذاء إعمالاً شاملاً للجميع من دون أي استثناء.
ويمكننا أن نعزّز حقنا في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، بحسب ما اعتمدته الجمعية العامة العام الماضي.
يمكننا تحقيق ذلك حقًا. لأن الوقت لا يزال سانحًا للعمل. ولكن علينا المبادرة إلى العمل فورًا.
يجب ألا نترك هذا الواقع لأطفالنا كي يصلحوه، بغض النظر عن حجم نشاطهم النضالي ومدى إلهامهم لنا. فالأشخاص الذين يجب أن يتصرفوا فورًا، وهم يتحملون أصلاً مسؤولية المبادرة إلى العمل فورًا، هم قادتنا اليوم.
أرجو من كل عضو في هذا المجلس أن يحمل هذه الرسالة الواضحة إلى خارج قصر الأمم وأن يترجمها في كل جانب من جوانب عمله.
فالتصدي لتغير المناخ قضية من قضايا حقوق الإنسان. والعالم يتطلّب المبادرة إلى العمل فورًا.