استعادة الكرامة: دعوة عالمية لإنهاء العنف في هايتي
07 نيسان/أبريل 2025

في شوارع عاصمة هايتي بورت-أو-برنس، تروي جدران المباني العامة التي هجرها موظفو الخدمة المدنية، بما في ذلك المستشفيات المغلقة، قصة بلد غارق في أزمة. ففي غضون ثمانية أشهر فقط، قُتل أو جُرح آلاف الأشخاص، معظمهم بالرصاص، وفرّ أكثر من مليون شخص من منازلهم.
وقد توصّل إلى هذه النتائج تقريرٌ جديد صدر عن مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، وعُرض خلال حوار نُظِّم ضمن إطار الدورة الـ58 لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة في جنيف.
ويرسم التقرير صورة صادمة لحالة حقوق الإنسان في هايتي، حيث تفوقت العصابات الإجرامية المسلحة في الكثير من الأحيان على قوات الشرطة، لا بل سيطرت على أجزاء من بورت-أو-برنس.
وقد أكّد الخبير المعني بهايتي الذي عيّنه المفوض السامي ويليام أونيل، خلال الحوار قائلًا: "لقد بلغت انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان في هايتي حجمًا وكثافة لم يسبق لي أن شهدتهما يومًا في البلاد. والخوف واضح في عيون الناس وفي أصواتهم. فالعصابات تسيطر بالكامل تقريبًا على العاصمة وتحاصرها، ما يجعل من بورت-أو-برنس سجنًا شاسعًا في الهواء الطلق."

خبير حقوق الإنسان ويليام أونيل يسير في شارع أوانامينت في هايتي، الواقعة على الحدود مع الجمهورية الدومينيكية، برفقة مسؤولين من شرطة الحدود البرية الهايتية. © المفوضية السامية لحقوق الإنسان/ ماريون موندان
العنف والأسلحة النارية
ما كان في السابق مجرّد عنف عصابات مشرذم أمسى اليوم اعتداءً منسقًا على المجتمع الهايتي. فقد استولى تحالف عصابات Viv Ansanm (العيش معًا) على مناطق أساسية في بورت-أو-برانس، وتوسع من المناطق المهمشة إلى قلب المدينة وأحياء الطبقة الوسطى، وهاجم المؤسسات.
وبين تموز/ يوليو 2024 وشباط/ فبراير 2025، وثّقت مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان 4,239 حالة قتل و1,356 إصابة. وفي إحدى المجازر، أُعدم 207 أشخاص على مدار خمسة أيام في سيتي سولاي. وتستخدم العصابات المسلحة أسلحة فتّاكة بشكل متزايد، بعضها مهرّب من مرافئ الولايات المتحدة الأميركية في حاويات من المواد الغذائية المجمدة أو الأجهزة الإلكترونية.
وقد أكّد مفوض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك خلال الحوار قائلًا: "ليست الأسلحة التي تزداد تطورًا، من صنع هايتي، بل تتدفق باستمرار من أماكن أخرى حول العالم."
ولا تُعتَبر الأسلحة النارية أساسية في عمليات القتل فحسب بل أيضًا في عمليات الخطف والاعتداءات الجنسية والابتزاز. كما تفرض نقاط التفتيش التي تقيمها العصابات على الطرق الرئيسية "ضرائب سير" على أي شخص يحاول المرور. وغالبًا ما يتم إطلاق النار على الضحايا الذين يقاومون.
إن الحدّ من تدفق الأسلحة النارية غير المشروعة أمر بالغ الأهمية لوقف عنف العصابات. ويتطلّب إنفاذ حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة، بما في ذلك تشديد الرقابة على المرافئ والحدود، وتفكيك شبكات الاتجار. ومن الموصى به أيضًا نزع الأسلحة طوعًا والتخطيط لإعادة شرائها. ويذكر التقرير أن شركات الأمن الخاصة، التي ارتبط بعضها بتحويل الأسلحة، يجب أن تخضع للتدقيق والتنظيم.
ويشدّد التقرير على أن استعادة الأمن في هايتي تتطلّب أيضًا تجهيز الشرطة الوطنية الهايتية وتوفير الموارد الكافية لها على وجه السرعة، مع ضمان مساءلة الضباط المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان.
كما يدعو التقرير إلى نشر بعثة الدعم الأمني المتعددة الجنسيات للمساعدة في استعادة المناطق التي تسيطر عليها العصابات ودعم الجهود الوطنية في هذا الصدد.
العنف الجنسي والأطفال في سياق النزاعات
تتعرّض النساء والفتيات للعنف الجنسي المتفشي على نطاق واسع، على يدّ العصابات. ويوضح التقرير بالتفصيل حالات اختطاف يرتكبها عناصر العصابات بحقّ النساء، فيختطفونهنّ من منازلهن أو من وسائل النقل العام، ويغتصبونهن في الأماكن العامة، وفي بعض الحالات يقتلونهن بعد ذلك. كما يتم احتجاز أخريات في ’علاقات‘ استغلالية تحت التهديد المستمر بالعنف.
ولا يتم الإبلاغ عن العنف الجنسي في أغلب الأحيان بسبب الخوف من الانتقام والوصم الاجتماعي وانعدام الثقة في المؤسسات العامة.
كما أن تأثير عنف العصابات على الأطفال لصاعق ومروّع. فالآلاف من الأطفال لا يستطيعون الالتحاق بالمدارس، والكثير منهم شهدوا أبشع أعمال العنف، بما في ذلك عمليات قتل، كما تتاجر العصابات بالأطفال وتستغلّهم وتزوّدهم بالأسلحة النارية.
وأشار أونيل قائلًا: "لقد شهد الملايين من الأطفال عنفًا لا ينبغي أن يراه أي طفل على الإطلاق. فقد أخبرتنا طفلات صغيرات نجَين من العنف الجنسي عن الأهوال التي عانين منها على أيدي العصابات. إلا أنهن، شأنهنّ شأن الكثير من الهايتيين، لم ينكسرن أبدًا."
بغية التغلب على هذا الوضع الخطير، يجب إنشاء نظام دعم شامل للضحايا، بما في ذلك الرعاية الطبية الفورية والطويلة الأجل، والاستشارات النفسية، والمساعدة القانونية، وبرامج إعادة الإدماج الاجتماعي، بحسب ما أكّده التقرير.
وفي آذار/ مارس، وبدعم من مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، أعلنت السلطات عن إنشاء فرقتَي عمل متخصصتين تتيحان فرصة التعامل بشكل أكثر صرامة وسرعة مع عمليات القتل الجماعي، بما في ذلك العنف الجنسي.
النزوح الداخلي والأزمة الإنسانية
تسيطر العصابات على الطرق الأساسية، ما يعطّل التجارة والمساعدات الإنسانية، كما أدت الاعتداءات المسلحة على مرافق مثل المستشفيات والمدارس، إلى تعميق الأزمة.
وقد أوضح تورك قائلًا: "نزح أكثر من مليون شخص في هايتي، العديد منهم عدّة مرات، واضطر 40,000 منهم إلى النزوح في الأسابيع القليلة الماضية وحدها. ويواجه شخص من بين كل اثنين من سكان هايتي - أي ما يعادل 5.5 مليون شخص - انعدام الأمن الغذائي الحاد. كما يواجه مليونا شخص حالة طوارئ على مستوى الجوع. ويعيش 6,000 نازح تقريبًا في ظروف شبيهة بالمجاعة."
ووفقًا لتقرير مفوضيّة الأمم المتّحدة السامية لحقوق الإنسان، يجب نقل النازحين داخليًا إلى مرافق آمنة ومناسبة، تضمن التمتع بالحقوق الأساسية مثل الغذاء والتعليم والرعاية الصحية، حتى في المناطق التي تسيطر عليها العصابات. ويواجه العاملون الصحيون والعاملون في المجال الإنساني اعتداءات متكررة، وهم يحتاجون إلى كل دعم ممكن.
الفساد، والإفلات من العقاب، والفشل في إنفاذ القانون
يسود الإفلات من العقاب على انتهاكات وتجاوزات حقوق الإنسان. ولا تزال المحاكم تعاني من نقص في التمويل وغالبًا ما تستهدفها العصابات. كما يتعرّض القضاة للتهديد أو يفرون إلى خارج البلاد، ولم تحرز القضايا البارزة المرتبطة بالمجازر أي تقدم يُذكَر.
وشدّد أونيل قائلًا: "على الأطراف التي تدعم العصابات ماليًا وسياسيًا أن تدفع ثمن جرائمها. إذ يجب تجميد الحسابات المصرفية ومصادرة الأصول والتأشيرات. ويجب أن تواجه هذه الأطراف العدالة وأن تخضع للمساءلة."
إنّ المساءلة الداخلية ضعيفة. فقد أحيلت ثلاث قضايا فقط تتعلّق بانتهاكات الشرطة من أصل 23 إلى نظام العدالة.
وفي حين نفّذت الشرطة الوطنية الهايتية عمليات لمواجهة العصابات في ظروف صعبة للغاية، يثير التقرير مخاوف بشأن عدم اعتماد تدابير لمنع استخدام القوة المميتة غير الضرورية أو غير المتناسبة والوقاية منها.
وأوضح توررك قائلًا: "خلال الفترة المشمولة بالتقرير، قُتل أو جُرح أكثر من 2,000 شخص في عمليات إنفاذ القانون ضد العصابات، بزيادة قدرها 60 في المائة مقارنة مع فترة الستة أشهر السابقة. وقد أصيب ثلث القتلى أقلّه عندما لم يكونوا متورطين في أعمال عنف، وغالبًا ما أصيبوا برصاص طائش أثناء وجودهم في الشوارع أو في المنازل."
دعوة عالمية لاعتماد إجراءات عاجلة
على الرغم من هذه الأوضاع المأساوية، يواصل الشعب الهايتي المقاومة والتحلّي بالأمل. ففي بعض المناطق، سمح انتشار بعثة الدعم الأمني المتعددة الجنسيات، المدعومة من الأمم المتحدة بإعادة فتح المدارس والعيادات. لكنّ الاحتياجات لا تزال هائلة. وقد دعا أونيل إلى اتخاذ إجراءات دولية جريئة.
فقال: "الحلول واضحة ومعروفة. وعلى دول العالم أن توفّر لبعثة الدعم الأمني المتعددة الجنسيات بقيادة كينيا ما تحتاج إليه من موارد كي تتكلّل مساعيها بالنجاح. وإذا انتظرنا لوقت أطول بعد، قد لا يبقى من هايتي إلا القليل لإنقاذه."
كما ناشد تورك مباشرةً، في ختام كلمته، المجلس والعالم، بما في ذلك وسائل الإعلام، كي يسلّطوا الضوء على هذه الأزمة، من أجل وضع حدّ نهائي للدمار والمعاناة التي لا تُحتَمَل.
“
لا يمكننا أبدًا أن ننسى شعب هايتي.
“
مفوّض الأمم المتّحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك